السيف في تعاليم المسيح
كتبها القس فيلوباتير جميل
في حوار رائع سأل أحد المعلمين تلاميذه قائلاً: من هو الإنسان المسيحي المثالي حسب رؤيتكم ووجهة نظركم؟!!!فأجمعت الآراء على الآتي : إن الإنسان المسيحي المثالي هو إنسان مسالم جداً يحول الخد الآخر... يحفظ نفسه من العالم... يقضي أوقاتاً أطول في التعبد.. يترك إدارة حياته لله.. يسلم له كل شيء... قاعدته أن الله يجعل كل الأشياء تعمل معاً لخيره دون تدخل مباشر منه.... !!!
وأقول لك - قارئي العزيز- أن هذه الصفات هي صورة جميلة جداً ولكني أتساءل معك هل هذه هي الصورة المثالية التي يريدها الرب يسوع من أبنائه ؟!! فماذا عن هذه الآيات "لا تظنوا أني جئت لألقي سلاًماً على الأرض ما جئت لألقي سلاماً بل سيفاً ... جئت لأفرق الإنسان ضد أبيه والإبنة ضد أمها والكنة ضد حماتها وأعداء الإنسان أهل بيته من أحب أباً أوأماً أكثر مني فلا يستحقني ومن أحب ابناً أو ابنة أكثرمني فلا يستحقني ومن لا يأخذ صليبه ويتبعني فلا يستحقني " ( مت 10 : 34 – 36 ) ... فههنا إعلان واضح أن إحدى أهم صفات الإنسان المسيحي المثالي حسب رؤية المسيح له المجد أن يكون إنساناً قوياً قادراً على اتخاذ أصعب القرارات في حياته بل ولديه الاستعداد الكامل للدخول في صراع مع ذاته أولاً ومع مجتمعه إن احتاج الأمر ذلك ... فالأمر يحتاج ليس إلى إنسان ضعيف بل إلى محاربين أشداء .
ففي أحد شوارع نيويورك ترددت أغنية من مغني شعبي استقى أغنيته من قصة حقيقية واقعية لسجين حُكم عليه بالسجن لأنه ثار لكرامته وقتل جاره وأحس بدنو أجله فدعى ابنه إليه وقال له قصيدة مطلعها ( إن حياتي تغرب في الوقت الذي تشرق فيه شمس حياتك ... عدني يا ولدي ألا تفعل ما فعلته أنا .. عندما ترى الاضطراب قادماً إليك ابتعد عنه وتوارى .. حول خدك الأيسر لمن يضربك على الأيمن .. ليس من الضروري أن تقاتل لتثبت أنك رجلاً... ).. مات الرجل وشب الولد مسالماً يضع صورة أبيه أمامه وكتب أسفلها القصيدة... ثم ذهب الولد للجيش وفي إحدى الأيام تعرض لموقف من زميل له مَس كرامته وإحساسه برجولته فثار وغضب وتقاتلا معاً، فدخل الخيمة وأخذ صورة أبيه وهو يبكي وكتب على ظهرها (... لقد وعدتك ألا أفعل ما فعلته أنت ... رأيت الاضطراب قادماً فابتعدت وتواريت... حولت خدي الأيسر لمن ضربني على الإيمن أنا أفهم أن هذا ليس ضعفاً.. لكني أفهم أيضاً أنه يجب أن أقاتل لأثبت أنني رجلاً !!!!!).
فالمسيحية لا تعني السلام من موقف الضعف بل تعني تماماً السلام من منطلق القوة، فالإنسان المسيحي المثالي هو إنسان قوي قادر على اتخاذ قرار وموقف واضح ومحدد ...فأتصور أنه ليس إنساناً مسيحياً مثالياً هو ذاك الذي يحاول أن يمسك العصا من منتصفها ليرضي جميع الأطراف فمن يضع أمامه أهدافاً عظاماً عليه أن يموت عن أشياء يحبها لكي يحقق هذه الأهداف ، فالفارق دائماً بين إنسان عظيمٍ وإنسانٍ أعظم سيكمن دائماً في عدد المرات التي ماتها ذاك الإنسان لتحقيق أهدافهِ فما أروع القول... { إن الحياة لأجل هدفٍ أصعب بكثير من الموت في سبيل مبدأ }
والأن أصل بك - قارئي العزيز- إلى نقطة الرد الحاسمة للأسئلة التي قد يثيرها البعض مُعثرين إياك في المسيحية وفي تعليم المسيح ووصاياه ويقولون كيف بعد أن انحدر المجتمع هكذا ليصل إلى مرحلة القتل من أجل شهوة القتل بل وصلت المجتمعات إلى أصعب مراحلها اللاأخلاقية، كيف ستتعامل بمفاهيم وتعاليم المسيحية ووصايا وأقوال المسيح؟!!!... فهناك من يقول مُجدفاً أن الضعف الذي تبديه المسيحية في تعاليمها حسب فكرهم لا يصلح لمقاومة العنف... وهناك من يُنمق الكلمات ويقول أن سمو تعاليم المسيحية لا تصلح في مجتمعات اليوم!!!.
فالأن أدعوك معي لقراءة تعاليم رب المجد يسوع بشكل وبأسلوب مختلف لتكتشف بنفسك أن المسيحية التي أتحدث عنها والتي أفهمها تحمل في داخلها قوة لنزع بذور الانتقام من داخل الإنسان، والآن أضع أمامك مرة أخرى الأيات التي يمكن أن يتسبب الفهم الخاطئ لها في سقوط الإنسان في عثرة من جهة تعاليم رب المجد يسوع.. وأقدم نتاج قراءاتي حول تفسير هذه الآيات وأتصور أنها يمكن أن تؤدي بك إلى أن تعرف وتدرك كم كانت تعاليم رب المجد يسوع متكاملة ورائعة وبالحري مناسبة جداً لكل عصر ويمكن تطبيقها في أي مجتمع..
أما عن الأيات فهي ما ورد في ( مت 5 : 38 - 45 )
"سمعتم أنه قيل عين بعين وسن بسن وأما أنا فأقول لكم لا تقاوموا الشر بل من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر أيضاً ومن أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فاترك له الرداء أيضاً ومن سخرك ميلاً واحداً فاذهب معه اثنين من سألك فأعطه ومن أراد أن يقترض منك فلا ترده . سمعتم أنه قيل تحب قريبك وتبغض عدوك وأما أنا فأقول لكم أحبوا اعداءكم باركوا لاعنيكم أحسنوا إلى مبغضيكم وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السموات فإنه يشرق شمسه على الأشرار والصالحين ويمطر على الأبرار والظالمين"
هذه هي أكثر الأيات التي ينظر إليها كثيرون ويختلفون فيما بينهم فمنهم من يقرأها ويشعر بالفخر لكونه مسيحياً. ومنهم من يقرأها فيشعر بأن المطلوب منه أمر صعب تنفيذه وبخاصة وهو يحيا في مجتمع لا أخلاقي ... ومنهم أيضاً من يقرأ بأسلوب خاطئ فيبدأ في التنفيذ الحرفي لبعض مفردات كلمات رب المجد يسوع مثل دعوته لتحويل الخد الآخر فتكون النتيجة الحتمية أن يشعر من يحيا بهذا الأسلوب بأنه يحيا بلا كرامة في مجتمعه مع ملاحظة أن هذا الأمر بذاته قد تعرض له رب المجد يسوع ولم يتعامل بهذا الأسلوب الحرفي ولم يحول خده الآخر ففي ( يو 18 : 22 ، 23 ) حينما لطمه عبد رئيس الكهنة قال للعبد في حزم وحسم " ... إن كنت قد تكلمت ردياً فإشهد على الردي وإن حسناً فلماذا تضربني "... لذلك أدعوك لقراءة هذه الملاحظات والتي يمكن أن تساعدك كثيراً في تكوين صورة متكاملة عن مقصد رب المجد يسوع حين قدم هذه الآيات وقال هذه الوصايا وهي تتلخص في الآتي :-
1- الملاحظة الأولى: إن السيد المسيح له المجد يتحدث عن مجالات مختلفة للعدوان وليس عن حالة بعينها فنجد مثلاً حالة الاعتداء على البدن من خلال اللطم وحالة الاعتداء على الممتلكات وحالة الاعتداء على النفس من خلال التسخير ولا يمكن فهم الآيات على أنها حديث حول علاقة الإنسان بالدولة أو بالحكومة أو بالسلطة ولكن الحديث عن بعض مجالات للاعتداء على المستوى الفردي فمن الهام أن ندرك هنا أن الأمر لا علاقة له بالتنازل عن أي حقوق يمكن أن يمنحها لك القانون من جهة حقوقك المدنية أو أي حق لك يقدمه المجتمع إن كان من خلال عملك أو من خلال تعاملاتك مع السلطة على اختلاف أشكالها .. فلا يمكن أن تطالبك الوصية أبداً بأي تنازل عن حقوقك التي يمنحها لك القانون .
2- الملاحظة الثانية: إن الوصية لا تقدم أبداً تبريراً لحماقة الآخرين أوالمعتدين بل تدعونا إلى التأمل في احتياجاتهم فالإنسان الذي يلجأ إلى استخدام العنف في تعامله معك تدعوك الوصية إلى معالجة المشكلة من جذورها فلا يقتصر أسلوبك في التعامل معه على إدانته أو معاقبته فتنتهي المشكلة ظاهرياً وتبقى جذورها وأسبابها إلى حين آخر يمكن أن تطفو على السطح مرة ثانية فتتسبب في اعتداء آخر منه وهكذا يدخل الإنسان في سلسلة لا تنتهي من العنف والعنف المضاد أما الحل الجذري فيكمن في التأمل في احتياجاته فليس المطلوب منك أن تمتص ضربة الخد الأيمن فقط وتصمت ولكن تحويل الخد الآخر يكمن في عمل إيجابي من جانبك من أجل إصلاح داخلي للأسباب التي تدفعه إلى الاعتداء البدني عليك .. كذلك أن تعطي الرداء لمن طلب ثوبك والسير ميلاً ثانياً لمن سخرني ميلاً واحداً فالميل الأول يمكن أن يمثل اعترافاً من جانبك بالخطأ العام من المجتمع والخاص من جهتك هذا الذي دفع الشخص لتسخيرك إياه أما الميل الثاني فستعطيه بكامل حريتك لتعطي لنفسك الفرصة كاملة من أجل علاج المشكلة من جذورها...
3- الملاحظة الثالثة: يجب أن ندرك تماماً أن الهدف من تنفيذ الوصية هو إصلاح المعتدِي وليس إذلال المُعتَدَى عليه فما المنفعة لو نفذت هذه الوصية حرفياً دون الوصول إلى الهدف الأصلي وهو إصلاح المعتدِي أو على الأقل بذل كل ما في وسعك لمحاولة إصلاحه فتكون النتيجة أن الوصية ستفقد معناها وتكون سبباً في شعورك بالضعف والخنوع والمذلة لمن يحاول تطبيقها .. فلابد أن ندرك أن تنفيذ الوصية حرفياً قد لا يحقق الهدف منها وهو نزع بذور الشر والغضب من داخل المعتدِي أما أن يتسبب اسلوبك في تنفيذ الوصية في أن يزداد المعتدِي عنفاً وعدواناً فتكون بذلك قد تسببت في إضافة عثرة جديدة خاصة به . فالإنسان كم هو أهم من الوصية ذاتها كما أشار رب المجد يسوع حين قال أن " ... السبت إنما جُعل لأجل الإنسان لا الإنسان لأجل السبت " ( مر 2 : 27 ) فمن الهام أن ندرك أن السيد المسيح لم يرفض عين بعين وسن بسن بل قبلها وأعطاها بعداً أعمق وأعظم حين قال من لطمك على خدك الأيمن حول له الآخر فما بين عين بعين وسن بسن وبين تحويل الخد الآخر لمن لطمني على خدي الأيمن مسافة كبيرة ومجال متسع أستخدم فيه كل الوسائل الممكنة والمتاحة لإصلاح الآخر !!!!
ولعلك قارئي العزيز تريد أن تسأل عن السبيل الذي يمكن من خلاله أن تصل إلى هذا المستوى أقول لك أن الآيات أيضاً في ( مت 5 : 38 – 48 ) لم تترك الأمر بل قدمت لك الخطوات العملية لتطبيق هذه الوصية للوصول إلى الهدف الأسمى وإليك الخطوات :-
أ) ( مت 5 : 45 ) " لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السموات " فالمطلوب أن تدرك أولاً مكانتك ومقدارك وتثق تماماً في نفسك وفي سلطانك وفي قدراتك الممنوحة لك كإبن لأبيك الذي في السموات وهذه الثقة ستجعلك دائماً فوق القانون الطبيعي وتمنحك الإرادة القوية لتطبيق هذه الوصية .
ب) ( مت 5 : 39 ) " لا تقاوموا الشر" فمن الهام أن تترجم ما تؤمن به إلى تصرفات يومية عادية بمعنى أن تفهم أن تحويل الخد الآخر وترك الرداء والسير ميلاً ثانياً هي مجرد أمثلة للوصول إلى الهدف الأسمى من تنفيذ الوصية وهو عدم مقاومة الشر والوصول إلى إصلاح المعتدي فالمطلوب مني أن أفكر وأبحث للوصول إلى الوسيلة المناسبة للعصر والمجتمع الذي أحيا فيه .
جـ ) ( مت 5 : 46 ، 47 ) " إن أحببتم الذين يحبونكم فأي أجر لكم أليس العشارون أيضاً يفعلون ذلك وأن سلمتم على إخوتكم فقط فأي فضل تصنعون أليس العشارون أيضاً يفعلون ذلك " فمن الخطوات العملية أيضاً أن أطهر نفسي من فكر الانتفام وأن أسعى دائماً أن أسير ليس في الطريق المعتاد الذي يسير فيه كل البشر بل الهام جداً أن أدرك تميزي وتفردي بكوني ابن لهذا الإله فيجب أن تكون لي أفضيلة ما من جهة سلوكي.
د ) ( مت 5 : 44 ) " أحبوا أعداءكم باركوا لاعنيكم أحسنوا إلى مبغضيكم وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم " فتترجم أيضا ما تقتنع به إلى مشاعر وأحاسيس فمن الضروري أن يحدث لك تغيير ما فيتحول مركز ثقل التعامل مع هؤلاء المعتدين من العقل حيث القناعة الفكرية بكونهم أعداء إلى القلب حيث المشاعر والأحاسيس بكونهم محبوبين مباركين .
هـ ) ( مت 5 : 48 ) " كونوا كاملين كما أن اباكم الذي في السموات هو كامل " أخيراً من الهام أن تدرك أن الهدف الذي يجب أن تضعه نصب عينيك هو الوصول إلى مرحلة الكمال فهذه هي نهاية الطريق وليس تنفيذك للوصايا وللتعاليم -حتى الصعب منها - إن هو إلا استمراراً منك في التحرك نحو الوصول إلى هذه الغاية العظمى وهي أن تصبح كاملاً.فهل تستمر في التحرك أم لا ؟!!!!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق